الفئران تكسب معارك السياسة والطب… هكذا تحولت مشارح السودان إلى بؤر طاعون

148

جثث مكدسة بطريقة لا إنسانية أو متناثرة في الممرات والمكاتب، ودماء تسقي الأرضيات، وروائح مخلفات بشرية تزكم الأنوف، وفئران تتغذى على الموتى.

إنه ليس فيلم رعب من إخراج ألفريد هتشكوك، ولكنه واقع الحال في مشارح مستشفيات الخرطوم، التي سرت تحذيرات من إمكانية أن تؤدي أوضاعها إلى انتشار مرض الطاعون في العاصمة السودانية.

فكيف وصلنا إلى هذا الواقع الأليم؟ ومن وراء هذه المأساة؟ ولماذا لا تزال جثامين يعود بعضها إلى 2019 في المشارح المحلية.

أما السؤال الأكبر، فيتصل بمسوغات رفض جهات عديدة لقرار النائب العام الأخير بدفن الجثامين، بعد اتباع البروتكولات المعروفة.

إنه ليس فيلم رعب من إخراج ألفريد هتشكوك، ولكنه واقع الحال في مشارح مستشفيات الخرطوم، التي سرت تحذيرات من إمكانية أن تؤدي أوضاعها إلى انتشار مرض الطاعون في العاصمة السودانية
حقائق عن المشارح
توجد في الخرطوم 3 مشارح رئيسية ملحقة بمستشفيات (بشائر جنوبي الخرطوم، الأكاديمي شرقي الخرطوم، وأم درمان شمالي العاصمة)، وتبلغ سعة هذه المشارح في أحسن تقديرات الطب العدلي 150 جثة للمشرحة الواحدة، بإجمالي 450 جثمان، فيما تفوق أعداد الجثامين المودعة حالياً داخل هذه المشارح 3 آلاف جثمان.

وبعد تحلل الجثامين في مشرحتي، بشائر والأكاديمي، صدرت قرارات بإغلاقهما تجنباً لكارثة صحية وبيئية، ما يعني أن المشرحة الوحيدة العاملة حالياً في العاصمة الخرطوم التي تحتضن ربع سكان السودان، هي مشرحة أم درمان، المهددة بالإغلاق هي الأخرى.

ويقول خبراء الطب العدلي، إن المشارح تستقبل في المتوسط يومياً 17 جثمان مجهول الهوية.

النقطة الحرجة
هناك سؤال بدهي، مؤكد أنه يخطر في بال قارئ رصيف22، ومفاده: “لماذا لا يتم دفن هذه الجثامين، إكراماً للموتي وإحياءً للإنسانية، وتجنباً لكوارث محتملة؟”.

لكن هذا السؤال إجابته معقدة، ويتداخل فيها الطب مع السياسة كما سنعرف لاحقاً.

في العام 2019، عقب تكوين لجنة مستقلة للتحقيق في ملابسات فض اعتصام القيادة العامة (3 يونيو/ حزيران 2019) الذي قضى فيه ما يزيد عن 100 محتج على يد قوات عسكرية، أصدرت النيابة العامة قراراً بوقف دفن الجثامين في المشارح، تحسباً لإمكانية أن يكون بين الرفات قتلى في الاعتصام الذي أطاح الرئيس عمر البشير في أبريل/ نيسان 2019، خشية طمس أدلة تدين مرتكبي الاعتداء.

وبالفعل عثرت بعض أسر المفقودين على أبنائها في زحام الجثامين، بعد أشهر من فض الاعتصام، كما في حالة قصي حمدتو الذي تعرفت عليه أسرته في مشرحة بشائر بعد مرور ثلاثة أشهر من واقعة الفض.

ولكن هذا القرار يولد تساؤل جديد وبدهي، عن لماذا لا يتم دفن الجثامين بطريقة تتبع البروتكولات المعروفة التي تتضمن تشريح الجثامين، ثم دفن الجثث في مقابر معلومة، وفقاً لأرقام متسلسلة، مع أخذ عينات من الحمض النووي DNA.

“لماذا لا يتم دفن هذه الجثامين، إكراماً للموتي وإحياءً للإنسانية، وتجنباً لكوارث محتملة؟”. هذا السؤال بدهي، لكن إجابته معقدة، ويتداخل فيها الطب مع السياسة كما سنعرف لاحقاً
سؤال ذهبنا به، إلى اخصائي الطب العدلي د. محمد الخاتم، فقال لرصيف22 إن المشكلة الرئيسة تكمن في أن أعداد الجثث في المشارح “وصلت إلى أرقام مهولة، ومع مرور سنوات على حفظها في ظروف غير ملائمة خارج البرادات، وفي ظل انقطاع التيار الكهربائي لأزمان طويلة، بات من المستحيل تشريح بعض الجثامين، وهو الوضع الذي يهدد حالياً بضياع أي أدلة جنائية”.

وأضاف: “في حال استمرار التمسك بقرارات عدم دفن الجثامين، ومواصلة التشكيك في الطب العدلي الوطني، فإنه من غير المستبعد أن تنشأ حالات إصابة بالطاعون جراء تغذي الفئران على جثث الموتي، ما يمهد لكارثة صحية وبيئية كبيرة”.

وفي أبريل/ نيسان الماضي، نظمت لجان المقاومة (كيانات تقود الاحتجاجات المطالبة بالحكم المدني) اعتصاماً أمام مستشفى التميز، بعد تحلل الجثامين وخروج روائح كريهة سرت إلى الحي المجاور.

ضد الدفن
تقف “لجنة اختفاء الأشخاص”، ومبادرات أخرى تنشط في البحث عن المفقودين، ولجنة أطباء السودان المركزية، ولجان المقاومة، على رأس الجهات الرافضة لقرارات دفن الجثامين.

وفي يوم 26 سبتمبر/ أيلول الماضي، سيرت لجان المقاومة “مليونية المشارح والمختفين قسرياً” لمناهضة قرار دفن الجثث المودعة في المشارح.

ويتهم عضو في لجان مقاومة الديم، وهي منطقة قريبة من مستشفى التميز، مختار عبيد السلطات بمحاولة “طمس معالم جرائم الجنرالات من خلال دفن الجثامين دون إتباع لبروتكولات الصليب الأحمر المتعارفة”.

وقال لرصيف22: “المسألة أكبر من مفقودي مجزرة القيادة العامة الذين يقترب عددهم من المائة، وتمتد إلى جرائم اختفاء كثيرة في حق المحتجين عقب هذا التاريخ، وما تزال مستمرة إلى اليوم، في سياق قمع التحركات المناوئة للسلطة”.

واستشهد في حديثه بالعثور على جثمان عضو لجان المقاومة، محمد إسماعيل (ود عكر) الذي اختفى في مارس/ آذار 2021، وعٌثر على جثمانه وعليه آثار تعذيب في مشرحة مستشفى أم درمان بعد شهر من اختفائه.

وأضاف عضو لجان المقاومة: “المشارح تعج بالشهداء والمفقودين الذين يحاول النظام تمييع قضيتهم من خلال دفن متسرع يسمح بإفلات الجناة من العدالة”.

وشدد على أن لجان المقاومة مع دفن الجثامين، ولكن “بطريقة لائقة وعلمية، في ظل رقابة دولية”.

انسحاب
آخر تداعيات أزمة الجثامين بالمشارح، كانت انسحاب لجنة المفقودين، من اللجنة التي كونها النائب العام للتعامل مع الجثامين.

واشترطت لجنة المفقودين الاستعانة بخبراء دوليين، كشرط لمعاودة أية أعمال ذات طبيعة فنية للتعامل مع أزمة الجثامين المكدسة.

وقالت اللجنة في بيانها، إن “تقرير خبراء دوليين أشار إلى افتقار السودان لنظام طب شرعي حقيقي ذي كفاءة ومصداقية، مع عدم إتباع إجراءات التشريح لمعايير الطب الشرعي العالمية”.

وعزت اللجنة فقدانها الثقة في الطب العدلي المحلي، إلى حصولها على “أدلة تؤكد دفن جثامين مجهولة الهوية دون التعرف على أصحابها بما في ذلك جثامين بعض مفقودي القيادة العامة، علاوة على بيع للجثامين، وتجارة للأعضاء البشرية داخل المشارح”.

الوضع الحالي
تتمسك السلطات وأطباء عدليون في السودان، بالمسارعة في دفن الجثث المتكدسة بالمشارح خاصة تلك الواصلة بعد زمن طويل من فض اعتصام القيادة العامة، بينما تتمسك جهات أخرى بانتظار خبراء دوليين، خشية طمس معالم جرائم قد تكون السلطة الحالية قد ارتكبتها.

ولكن في ظل كل هذا الجدل؛ تجري دماء كثيرة من تحت أبواب المشارح المكتظة، فيما لن يكون مصير الجثامين الجديدة سوى المثل الذائع “هي المشرحة ناقصة جثث؟”.
الانتباهة

تعليقات
Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد