ويكيليكس السودانية: انهيار مراكز التدريب المهني!

192

الصرف على المراكز (صفر) وإذا كان هناك (باقي روح) فيها فهو بفضل (اليونيدو)

ورش مخارط حديثة بمركز مايو لم تعمل منذ العام 2009م

المتاريس توضع أمام المدربين المؤهلين فاضطروا للاستقالة والهجرة للدول العربية

تحقيق ـ التاج عثمان

(ويكيليكس السودانية) تحقيق صحفي في حلقات يكشف بالوثائق والمستندات حجم الفساد المالي والإداري والفني الذي اجتاح مفاصل العديد من المؤسسات الخدمية والاقتصادية الحكومية وأصابها بالشلل والفشل في عهد النظام البائد .. نهش شره مسعور للمال العام وتشليع لممتلكات هذا الشعب المغلوب على أمره .. ويكشف التحقيق كيف تفنن منتسبو عهد الإنقاذ البائد في سرقة المال العام ونهب ممتلكات الدولة طيلة الثلاثين سنة الماضية حتى أصبحت بلادنا خالية على عروشها .. نهشوا لحم الوطن وتركوا العظم .. والأدهى أنهم عندما يسرق القوي المال العام يتركوه وإذا فعلها الضعيف تكالبوا عليه ونحروه مسخرين أجهزتهم الإعلامية العميلة لفضحه والتشهير به لمداراة سوءاتهم وصرف الأنظار عن جرائمهم الكبيرة .. بل إنهم قاموا بـ(شرعنة الفساد) عندما يقوم أتباعهم واذيالهم بسرقة المال العام بإبتداعهم نظام (التحلل من الثراء الحرام والمشبوه) فمبجرد اعترافهم بسرقة المال او أصول ومقتنيات الشعب والتظاهر باستردادها منهم يصبحون طلقاء لا محاكمات تعقد لهم ولا عقوبات ولا سجون تفتح أبوابها لهم .. وإليكم نماذج من الجرائم والممارسات الخاطئة التي اكتوى بنيرانها كل الشعب السوداني طيلة الثلاثين سنة الماضية.. وننوه أن الإعتداء على المال العام بانواعه المختلفة حدثت إبان حكم العهد البائد وبعضها لا نزال نبتلي به حتى اليوم وهي غيض من فيض.. وما خُفى كان أعظم

ثروة قومية

مراكز التدريب المهني بالعاصمة أنشأتها حكومة ولاية الخرطوم، بإشراف منظمة اليونيدو، وتمويل الإتحاد الأوروبي بمناطق: (جبل أولياء ـ مايو ـ الحلفاية ـ الحاج يوسف ـ كرري)، وهناك مركز بالكدرو يدعم من ماليزيا، وآخر بالحلفاية بتمويل من تركيا..فلسفة إنشاء المراكز تتلخص في استيعاب كل الأطفال الذين لم يستطيعوا مواصلة دراستهم الأكاديمية..المركز الواحد صمم لاستيعاب حوالي (800) طالب..وهي تحتوي على أجهزة ومعدات حديثة، فمثلا مركز مايو جنوب الخرطوم به تخصصات: (تكييف ـ وتبريد ـ وكهرباء عامة ـ وخراطة رقمية وعادية ـ ولحام ـ إضافة للكمبيوتر واللغة الإنجليزية للأسماء والمصطلحات الفنية)..أما مركز الحلفاية فيضم تخصصات: (كهرباء عامة ـ لحام ـ انابيب بترول ـ فندقة وسياحة ـ ورشة كمبيوتر رئيسية ـ تجميل، كوافير وحلاقة).. ومركز كرري يضم تخصصات: (إنشاءات المباني،نقاشة، وسباكة، وكهرباء عامة وتوصيلات كهرباء)..بينما مركز الحاج يوسف متخصص في: (ميكانيكا السيارات والآليات الثقيلة ـ سمكرة السيارات،وبه أفران البوهية ـ ويحتوي على جهاز متقدم يركب في العربة المتعطلة يمكن من خلاله الاتصال بالجهة المصنعة بالخارج).

هذه المراكز مجتمعة كان يمكن أن تستوعب كل من فاته قطار التعليم الأكاديمي لأسباب مختلفة، بل إن خريجيها يعدون ثروة قومية لو استخدمت واستغلت حسب الخطط الموضوعة لها..فدول النمور الآسيوية ما وصلت لهذا التقدم الذي وصلته إلا بسواعد خريجي المراكز المهنية، حيث أنشأت معاهد سنة وسنتين وشجعت أبناءها على الإلتحاق بها، بعدها غزت بهم دول الخليج كفنيين في مختلف المجالات الفنية التي توجد لدينا بمراكز التدريب المهني السودانية،وما يجنونه من عملهم بالخليج من عملات صعبة يحولونه لبلدانهم فساهموا بدرجة كبيرة في نهضة أوطانهم وتقدمها ورفاهية شعبها.. ولكن للأسف ما حدث لمراكز التدريب المهني لدينا في السودان عكس ما حدث في دول النمور الآسيوية تماما..لحق بها الإهمال والخراب حتى إنهارت تماما وهجرها أساتذتها الذين قدم بعضهم من الخارج للمساهمة في تدريس أبنائهم فلم يجدوا أمامهم سوى العراقيل فعادوا من حيث أتوا.

باقي روح

وحسب المعلومات والمعطيات الماثلة الآن يمكنني القول إن جميع مراكز التدريب المهني الآن لا تعمل بكفاءتها المطلوبة، والأسباب كثيرة، منها على سبيل المثال: انعدام المواد الخام التعليمية أعاق عمل المراكز،إهمال المدربين كعدم ترحيلهم، وعدم منحهم الأجر الإضافي نظير عملهم لدوامين في المراكز، وتوقف دعم ولاية الخرطوم لها، ولذلك أصبح الصرف على التنمية لهذه المراكز (صفراً).. وتعاني كل المراكز من تلف ونقص في الإجلاس.. وتعطل كثير من الأجهزة التعليمية وغيرها مثل شبكة الإنترنت التي كانت تربط كل المراكز ببعضها البعض..كما توقفت كبانية الإتصالات لعدم سداد الفواتير..إهمال المخازن الملحقة بالمراكز وافتقادها لموظف متخصص، فلا يوجد أمين مخزن.. فمثلا مركز التدريب المهني بامبدة، تحت الإنشاء، أحضروا له مواد تشغيلية تم تخزينها داخل أحد المكاتب لعدم وجود أمين.. ومخزن مركز الكدرو مغلق منذ فترة لعدم وجود أمين مخزن!..ولكن أين هم أمناء المخازن بمراكز التدريب المهني؟..إنهم يتمركزون في المجلس الأعلى لتنمية الموارد البشرية، ولذلك تسلم المواد الواردة لمدير المركز وهذا ليس عمله.. وهناك مدرب لحام يعمل مديرا لصيانة المتحركات وهذا ليس مجاله.. رصدت (ويكيليكس) (30) جهاز اسكنر تصوير، و(65) كرتونة ورق (اي فور) الخاص بالطباعة، وادوات مكتبية مختلفة منتهية الصلاحية أي تالفة ببعض المخازن وإمتلأت المخازن بها ما يدل أن المراكز لا تعمل..هذه المواد ظلت ملقاة بإهمال وعدم اكتراث للمال العام منذ عام 2018م، أي أنها ظلت مركونة بالمخزن تحت ظروف تخزينية سيئة لأكثر من أربع سنوات، فهل بعد طول التخزين هذا سوف تكون صالحة للاستعمال؟.. وحسب متابعاتي لحال المراكز،تمت عملية جرد من لجنة مشتركة من وزارة المالية ولاية الخرطوم والمجلس، لكن وزارة المالية لم تتخذ أي إجراء لمعالجة المشاكل التي تعاني منها مخازن مراكز التدريب المهني.. بينما حكومة الولاية لا تعير المراكز انتباهاً ولا تقدم لها أي دعم يذكر، والآن هذه المراكز،إذا فيها (باقي روح) فذلك بفضل دعم (اليونيدو) التي تقدم بعض المواد الخام، وحتى الطلبة كانت تمنحهم حق المواصلات.. وحسب المعلومات التي تحصلت عليها أثناء تجميعي لمعلومات هذا التحقيق، فإن وزارة المالية ولاية الخرطوم وردت عام 2018م مواد تشغيلية خاصة بورش المراكز بقيمة (22) مليون جنيه وحتى الآن بعضها لم يوزع للمخازن، منها مصنع بلوك خاص بمركز كرري وذلك لعدم وجود نثريات لإيجار عربات لترحيل المواد من مركز جنوب الخرطوم للمراكز الأخرى، وبعضها تم ترحيله مؤخرا فقط…

باختصار لا يوجد جديد في هذه المراكز ولم يتم وضع حلول للمشاكل التي تعترض عملها منذ (4) سنوات، وبعد الثورة أصبحت للأسف أسوأ وفي طريقها للإنهيار هذا إن لم تكن قد إنهارت فعلا!

أسباب الانهيار

ولكن لماذا انهارت مراكز التدريب المهني بهذه الصورة المؤسفة والمؤلمة؟..

أستاذ سابق عمل لفترة بأحد المراكز في عصرها الذهبي، يعدد الأسباب بقوله:

“كل المراكز في حالة يرثى لها وشبه متوقفة عن العمل، على سبيل المثال فإن عدد الطلاب المسجلين بمركز الخرطوم جنوب للكورس التحضيري والذي كان يفترض بدايته بعد عيد الفطر متوقف لإنعدام المواد الخام..فالمركز في السابق كان يخرج (300) طالب في السنة، والآن أصبح لا يخرج سوى (100) طالب لإمكانيات المراكز الضعيفة وعدم توافر المواد الخام..والقوى العاملة بأحد المراكز تقلصت من (68) مدربا وإداريا إلى (28) فقط، علما أن بعضهم تلقوا تدريبات..وبسبب القصور الحاصل أصبحت مراكز التدريب المهني لا تعمل بالسعة الاستيعابية اوالإنتاجية لها، رغم أنها تعمل بنظام السمسترات وهو نظام أوروبي ينتقل بالطالب من سمستر لآخر وهو يختصر الزمن.. فالطالب منذ التحاقه بالمركز وحتى التخرج يقضي (12) شهرا، حيث يبدأ بالكورس التحضيري لمدة (3) شهور، والذي يؤهل الطالب لدخول الورشة، ويتلقى فيها بعض مصطلحات اللغة الإنجليزية التي تتعلق بتخصصه،وعلوم حاسوب، ورياضيات فنية، ومهارات أعمال.. بعدها ينتقل للمستوى الفني الأول لمدة (4) شهور، ثم المستوى الفني الثاني لمدة (5) شهور، بعدها يتخرج الطالب ويدخل سوق العمل.

وكان خريجو مراكز التدريب المهني عند تخرجهم تتهافت عليهم الشركات داخل وخارج السودان للسمعة الممتازة التي اكتسبتها هذه المراكز حتى على النطاق الإقليمي..بل كان هناك طلاب جامعات من الكليات الهندسية يتدربون بورش المراكز..وسبب تدهورها من وجهة نظري يعود لسوء الإدارة، على سبيل المثال عدم تصديقها بالمواد الخام التعليمية ولذلك فهي غير متوافرة أغلب الأوقات..فلا توجد أولويات لعمل المراكز ما أعاق العمل بها.. وليس هناك مراعاة لخصوصية معلم التدريب، فالمراكز أنشأها الإتحاد الأوروبي ويفترض وجود خصوصية في العمل الإداري بحيث تتوافر المعينات والترحيل او نثريات الترحيل للمدرب.. وهناك مدربون تلقوا دورات تدريبية متخصصة، وكانت الدولة تدفع للواحد مبلغ (3000) دولار، بينما يسهم الإتحاد الأوروبي بمبلغ (4000) يورو، وللأسف لم تستفد الدولة من اولئك المدربين المؤهلين تأهيلا عاليا،بل وضعت أمامهم المتاريس والعراقيل، ومعظمهم اضطر لتقديم استقالاته والهجرة للدول العربية، بل بعضهم تلقفته الدول الأوروبية للكفاءة العالية التي يتمتعون بها، وبالتالي فقد السودان ثروة قومية لا تقدر بثمن.

ويفترض وجود خطة باحتياجات المراكز يتم رفعها لوزارة المالية لتجاز ثم ترجع للمجلس، وهي من الأولويات لهذه المراكز حيث إن مراكز التدريب تتبع لوزارة التنمية البشرية..

ومن مظاهر سوء الإدارة الذي يعد أحد أسباب انهيارها فشل (الشراكة الذكية) بين المراكز وبعض الجهات الأخرى، حيث يفترض أن تستفيد هذه الجهات من إمكانيات المراكز وتدريب منسوبيها مقابل عائد مادي يوظف لترقية العمل في المراكز..مثال آخر هناك مشكلة إجلاس في بعض المراكز رغم أن بعض المراكز لديها إمكانية تصنيع الكراسي بورشها.. كما كان يمكنها القيام بدور النقل الميكانيكي سابقا لصيانة العربات الحكومية بالمركز الميكانيكي وورشها المتطورة، وتدريب منسوبي بعض المنظمات كاللاجئين، وهو تبادل منافع، ويفترض ان يكون هذا البرنامج مقنناً، لكن أصبح بعض مسؤولي الدولة يأتون بمعارفهم للتدريب بالمراكز.. فالدولة غير متفهمة لدور التدريب المهني وأهميته ولا توليه أي اهتمام.. فالمراكز لا تزال تعمل بأجهزة حاسوب منذ عام 2008م عفا عليها الزمن رغم أنها تحتوي على داتا الطلاب.. فهناك عدم إهتمام بتحديث وتطوير وصيانة الماكينات والتي توقف بعضها منذ (10) سنوات لانعدام الصيانة، مثلا مركز التدريب المهني بمايو جنوب الخرطوم به ورشة مخارط لم تعمل أصلا منذ عام 2009م، والتبريد والتكييف الصناعي لم يعمل منذ افتتاح المركز..ومن مظاهر سوء الإدارة الذي لصق بهذه المراكز، أن شركة سودانية خاصة قامت بتوريد أجهزة للكبانية عبر عطاء، واستلمت تكلفة الأجهزة قبل التركيب لكنها لم تقم بتركيبها بكل مراكز التدريب المهني!.. وهناك ورش مكتملة ومؤهلة بأجهزتها لم تستغل لعدم وجود الكادر التدريبي او لأسباب واهية..

باختصار الدولة لا تستوعب أهمية التدريب المهني في النهضة الصناعية والتنموية للسودان، رغم أن النظرة للتدريب المهني تغيرت بكل دول العالم، وهناك إقبال كبير من الشباب عليه، وهناك إمكانية للتدريب التحويلي بتدريب خريجي بعض الكليات بالمراكز.. وهذا يتطلب من الجهات المسؤولة بالدولة مراجعة أداء هذه المراكز وأسباب انهيارها بهذه الصورة المؤلمة حقا لكل من عمل بها من معلمين ومدربين، او لطلابها الأوائل الذين إلتحقوا بها عندما كانت في أوج مجدها وشهرتها”.

*المحرر

كل دول العالم أصبحت تتجه نحو التعليم التقني والفني لعلمها بأهميته في نهضة أوطانها، بل إنه في بعض الدول الآسيوية يأتي على رأس الأهمية ويتفوق في ذلك على التعليم الأكاديمي، ويحظى بإقبال واسع ومنافسة حامية حتى يتم قبول الطالب فيه.. وأعرف كثيراً من خريجي مراكز التدريب المهني السودانية يتقلدون مناصب رفيعة بالخارج خاصة بدول الخليج، التي تستوعبهم أكثر من خريجي كليات الهندسة، وتمنحهم رواتب أعلى منهم..وبعضهم نجح في إقامة ورش وشركات مشهورة محليا وعربيا متخصصة في ميكانيكا السيارات، أو أعمال الكهرباء، والتبريد والتكييف، وغيرها..ولذلك على الدولة تغيير مفهومها تجاه مراكز التدريب المهني والاهتمام والارتقاء بها، فهي أفضل وأكثر جدوى من الكليات النظرية التي يجب تقليصها، فخريجوها يقفون على أبواب الوظيفة حتى بعد تخرجهم بسنوات دون الحصول على عمل..وبعضهم بعد تخرجه في الكلية النظرية يلتحق بمراكز التدريب المهني ليكتسب مهنة لينخرط في سوق العمل وما يكسبه أضعاف أضعاف مرتب الموظف في الدولة..

في الحلقة القادمة نقف على وجهة نظر المجلس الأعلى لتنمية الموارد البشرية.
الحراك السياسي

تعليقات
Loading...

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد